انعكاس السيرة في الإبداع
إن معرفة سيرةِ المؤلف، وتفاصيلِ حياته، والأحداثِ المختلفة التي مرت به تُعينُ - من غير شك - على تفسير جوانبَ من أدبه، وعلى فَهْم بعض الألفاظ، والعبارات، والإشارات، التي وردتْ فيه، وهذا ما تَبَنَّاهُ المنهج النفسي، ودافع عنه بقوة.
كما أن معرفة سِيَر الأُدباء - ولا سيما الكبار المتميزون منهم - ممتعة ومُفيدة، وقد تعين - زيادة على تفسير العمل الأدبي - على تقدير قيمته كذلك.
يقول ديفيد ديتش: "السيرة قليلة العونِ في تعيين قيمة الأثر الأدبي، ولكن علينا أن نؤكدَ أن هذا لا يعني أن سيرة الأدباء الكبار قليلةُ القيمة في ذاتها؛ ربما تساعدنا السيرة على تقدير قيمة الأثر الأدبي؛ ولكنها دراسة مهمة ممتعة على وجهها، والتطلع الفكري مثمرٌ دائمًا، وبخاصة ذلك التطلع الشغوف لمعرفة سِيَر العُظماء، ومن كان باحثًا جادًّا في الأدب كانت كل معرفة لديه ذات فائدة[1]...".
وإذن فإنَّ معرفة سيرة المؤلف تُعين على تفسير جوانب من أدبه، وهي - إن لم تكن ذات فائدةٍ كُبرَى في تقدير قيمة العمل الأدبي وتقويمِه - ليست عديمةَ الجَدْوى تمامًا في هذا الجانب؛ إذ قد تُعين عليه، وتفتح بعض مَغاليقه.
ولكنَّ الخطأ الكبير الذي يقع فيه من يُعْنَوْنَ عناية بالِغَة - من أصحاب المنهج التاريخي - بسيرة المؤلف، هو اعتقادهم أن الأثر الأدبي - وثيقة من حياة صاحبه، أو أنه يُعَبِّرُ عن تَجْرِبَتِه الذاتية، وأن ذلك يُعَدّ من باب الصدق، وأنه هو مقياس الجودة في الأدب.
إن الحق الذي تُؤَيِّدُه القرائنُ الكثيرة، أن الأمر ليس كذلك في كثير من الأحيان، فالأثر الأدبي لا يَعْكِس دائمًا حياة مؤلفه، ولا هو - باستمرار - تعبير عن تَجَارِبِه الشخصية الذاتية.
بل إنَّ الأثر الأدبي - كما يقول ديتش – "قد يجسد (حلم) الأديب لا واقع حياته، أو قد يكون (القناع) أو قد يكون (النقيض) الذي يخفي وراءه شخصه الحقيقي، أو قد يكون صورة من الحياة التي يريدُ الأديب أن يهرُب من نطاقِها، ثم علينا ألا ننسى أنَّ الفنَّان قد "يجرِّب" الحياة تجربة مباينة من خلال فنه، فيرى التَّجارِب الواقعية من حيث فائدتُها للأدب، فتجيءُ إليه وقد تَلَوَّنَتْ بعض الشيء بلون التقاليد والمواصفات الفنية..."[2].
كما أن معيارَ الصدق لا يقصد به على الإطلاق أن يكون الأثر الأدبي صفحة من تاريخ مؤلفه، أو وثيقة من وثائق حياته، إذ هو عندئذٍ حكم على الصدق الواقعي المستمد من سيرة الأديب، وليس حُكْمًا على الصدق الفني الذي هو مَنَاطُ بحث الناقد واهتمامه.
ثم من يستطيع أن يتخيل - وإنْ مجرد تخيّل - أن عشرات التجارِب والأحداث والأفعال التي عَبَّر عنها الأديب في قصصه، ورواياته قد عاشها جميعًا؟، وأي عمر هذا الذي يَتَّسِعُ لذلك؟!
إنَّ مُجرَّد الاعتقاد أنَّ الأَثَرَ الأدَبِيَّ هو مَحْض نسخة من الحياة، أو أنه صورة فوتوغرافية عنها، هو اعتقاد غير صحيح، ذلك أنَّ الأدب يقوم على التَّخَيُّر والانتِقاء، على الأخذ والتَّرْك، الحياة مصدر له، لكنه لا يَنْسَخُها نَسْخًا، وله شروطُه وطبيعتُه وفنيته التي تجعله يتعامل مع الحياة بطريقة تحققها، ومثل هذا - أو أكثر - ينطبق على ما يمر بالمؤلف من أحداث وأحوال، فهو - في كل ذلك - خاضعٌ لمبدأ (الانتفاء)، ومبدأ (تحقيق العرف الأدبي) لهذا الجنس الذي يكتب فيه.
ويضاف إلى ما تقدَّمَ كُلِّه أنَّ كثيرًا من الأدباء - ولا سيما الشعراء - مَوْسُومُون بالمبالغة، والغلو، والتَّجَوُّز، والكذب، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، مصداقًا لقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا} [الشعراء: 224 – 227].
وهذا يعني - بشكل صريح - أن قولهم لا يعبر – دائمًا؛ بل كثيرًا - عن فعلهم، وهو لا يعكس حقيقة السلوك، والتصرفات الفعلية التي قاموا بها، ولذلك لا يجوز الربط بين سيرة المؤلف وإبداعه، أو الاعتقاد الجازم أن الإبداع (انعكاس) لحياة المبدع أو سيرته.
الكاتب المسلم وصدق السيرة الذاتيةحين يتحدث عن الصدق عند الكاتب المسلم فإن الأمر مختلف جداً، لاسيما في فن السيرة الذاتية وما شاكلها من الفنون المعتمدة على الصدق، وربما تم بين الطرفين (الكاتب - القارئ) ما يشبه التواثق على قول الحق والصدق، لأن المسلم صادق يحب الصدق، ويلتزمه ظاهراً وباطناً وفي أقواله وأفعاله.
الصدق .. الصدق
والمسلم لا ينظر إلى الصدق خلقاً فاضلاً يجب التخلق به فحسب، ولكنه يذهب إلى أبعد من ذلك، يذهب إلى أن الصدق من متممات إيمانه، ومكملات إسلامه(3)، إذ أمر الله تعالى به، وأثنى على المتصفين به فقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}(4)، كما أمر به رسول الله # فقال: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ومايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ومايزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً(5). وحذّر ـ عليه الصلاة والسلام ـ أشد التحذير من الكذب، ونفى أن يتصف به (المؤمن) فقال في الحديث الذي يرويه أبو أمامة: «يطبع المؤمن على كل طبعة (وفي رواية: على كل شيء» إلا الخيانة والكذب(6).
وسئل رسول الله # عن المؤمن هل يكون جباناً؟
ــ «فقال: نعم.
ــ قيل: هل يكون بخيلاً؟
ــ قال: نعم.
ــ قيل: هل يكون كذاباً؟
ــ قال: لا..»(7).
ولذلك فالواجب على ال(
ـ حتى يظهر لنا كذبه ظهوراً بيناً جلياً لا يحتمل التوجيه، فإذا خالف كلامه الواقع أو
خالف فعله قوله، فلنا حيئنذ تكذيبه. ونحكم على ما تركه من سيرة أو أخبار بأنها زائفة ـ إن ظهر كذبه في الجميع ـ أو مظنة الكذب والتحريف ـ إن ظهر لنا الكذب في بعضها وخفي بعضها ـ فمن اجترأ على الكذب مرة كان جريئاً عليه مرات ومرات.
| \ |
والثقة في الكاتب المسلم لا تعني التسليم المطلق لكل ما يقول، بل المسلم كيّس فطن يتثبت مما يقرأ أو يسمع وبخاصة ما يتصل من الكلام بالناس، وبعض الأمور المهمة التي ينبني عليها ت(9).
غير أن المسلم على الجملة ـ ولاسيما فيما يخصه من نسب ودراسة وولادة ومشاهدات وصعوبات واجهته، وعقبات تجاوزها ومكاسب حققها.. إلخ، مصدق ومؤتمن فيما يحكيه، لأنه المرجع الأقرب، ولأنه مأمور بقول الحق، فإذا الحقيقة.
الحديث عن النفس ولكن..
أما بالنسبة للحديث عن الذات والثناء عليها، وذكر محاسنها وتسجيل مآثرها والإشارة إلى ما حققته من سبق وما اختصت به من أسباب التميّز والفرادة في مجال من المجالات،
وتعالى بذلك، فقال: {يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين}(10). وقال: {وأما بنعمة ربك فحدث}(11).
ويشترط في جواز الحديث عن النفس ألا يفضي إلى منكر كالغرور والعجب بالنفس والكذب. فالحديث عن الذات مزلق خطير يفقد الكاتب التحكم في نصاب الحقيقة، فتضطرب بين يديه الأمور، وتستأثر الحق، والثناء على النفس بغير ما تستحقه، فقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لِمَ تقولون مالا تفعلون ü كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون}(12). ويقول تبارك وتعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يُحمدوا بمالم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم}(13). كما غلّظ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الإقدام على ذلك، روت أسماء ـ رضي الله عنها ـ قالت: «إن امرأة قالت: يارسول الله إن لي ضرّة فهل علي جناح أن أتشبع(14) من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «المتشبع بما لم يُعط كلابس ثوبيْ زور»(15).
ولا تزكوا أنفسكم
وما جاء في النهي عن تزكية النفس في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ü انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثماً مبيناً}(16). وقوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغرفة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}(17). فالمراد بها تزكية النفس والشهادة لها بالإيمان والأعمال الدينية
الصالحة والمكانة عند الخالق تبارك وتعالى، والمنزلة في الآخرة، كما يفهم من سياق الآيتين الكريمتين اللتين نهتا عن ذلك. وقد ثبت عن رسول الله # أنه قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع»(18). وكان عليه الصلاة والسلام يحضر مجالس الوفود ويستمع إلى مفاخراتها فلا ينكر عليهم، وربما أمر أصحابه أن يلتمسوا خطيباً يجيب خطيب القوم وشاعراً يفاخر شاعرهم(19). ولم يحبس كثير من سلف الأمة وفقهائها أقلامهم عن الثناء على أنفسهم بالحق، حين ألمحوا إلى بعض تجاربهم الروحية والعملية وكفاحهم في تحصيل العلم وتحقيق مسائله ومن هؤلاء الأئمة الغزالي(20) والسيوطي(21) وابن حزم الظاهري(22) وابن الجوزي(23) ـ رحمهم الله جميعاً ـ مما يدل على أن في الأمر رخصة وسعة.
وعلى الكاتب أن يتحقق فيما ينقله(24).
وقمين بمن كان وازعه بين جنبيه يحاسبه من داخله بأن تكون سيرته الذاتية ـ إذا رزق أصالة التعبير وجودة التصوير وحسن التحليل والتفسير ـ من أصدق الفنون والآداب وأقربها إلى الواقع وأقواها أثراً، لأنها حينئذ تصبح بحق ملتقى للصدق التاريخي بالصدق الفني الأصيل.
الهوامش
[1] "مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق"؛ ديفيد ديش، ترجمة د/ محمد يوسف نجم: ص 504.
[2] السابق: ص502
(3)ينظر: الشيخ أبوبكر الجزائري، منهاج المسلم: 224.
(4) التوبة: 119.
(5) صحيح البخاري: 10/533، حديث رقم (6094) (بشرح فتح الباري لابن حجر العسقلاني.
(6) البيهقي: السنن الكبرى: 10/197، حديث رقم: 20616، ورقم (20617).
(7) محمد بن جعفر الخرائطي: مساوئ الأخلاق: 63 حديث رقم (131) والشيخ سيد سابق: إسلامنا: 178-179.
(
ينظر الحديث: صحيح الإمام مسلم: 4/1986، حديث رقم: (2564).
(9) الحجرات: 6.
وكان من سنة النبي عليه الصلاة والسلام ـ وسنته تشريع ـ أنه لا يأخذ بالقرف (أي: التهمة) ولا يقبل قول أحد على أحد إلا بتثبت وتبين. ينظر: المتقي الهندي: كنز العمال: 7/83 حديث رقم (703).
(بشرح تنوير الحوالك للسيوطي).
(10) البقرة: 47.
(11) الضحى: 11.
(12) الصف: 2، 3.
(13) آل عمران: 188.
(14) أي أنها تريد أن تظهر أنها أرفع قدراً عند زوجها لتغيظ ضرّتها.
(15) المتشبع هو: المظهر للشبع وليس بشبعان. وثوبي زور: صاحب زور، والمراد الذي يزوّر على الناس ويكذب عليهم، ويدعي أن له فضيلة ليست له ليغتر به الناس.
صحيح مسلم: 3/1681، حديث رقم (127).
(16) النساء: 49، 50.
(17) النجم: 32.
(18) صحيح مسلم: 4/1782، حديث رقم (2278). (19) ابن سعد: الطبقات الكبرى: 1/293-295 وديوان حسان بن ثابت: 299-308 (بشرح عبدالرحمن البرقوقي).
(20) يراجع كتابه: المنقذ من الضلال. تحقيق: محمد أبو العلا ومحمد جابر، مكتبة الجندي، القاهرة، 1973م.
(21) يراجع كتابه: التحدث بنعمة الله، تحقيق اليزابيث ماري، المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، بدون تاريخ.
(22) يراجع كتابه: طوق الحمامة، تحقيق: المحامي فاروق سعد، دار مكتبة الحياة، لبنان، بيروت، ط1، ت1992م.
(23) يراجع كتابه: صيد الخاطر تحقيق وتعليق: علي الطنطاوي وناجي الطنطاوي، دار المنارة، السعودية ـ جدة، ط5، ت1412هـ ـ 1991م، وكتابه: لفتة الكبد في نصيحة الولد، دار القاسم للنشر، السعودية ـ الرياض، ط2، ت1418هـ.
(24) قال رسول الله # في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير: «الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما مشبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه» رواه الإمام البخاري: 1/153 حديث رقم (52). (شرح فتح الباري لابن حجر العسقلاني).
* د. وليد قصّاب
منقول