اليابان وأفريقيا

يمكن أن تساعد دول "التيكاد" اليابان في تحقيق مصالحها خصوصاً في ظل القدر الكبير من التوافق بينهما
تشهد القارة الافريقية الآن ما يسميه بعض المحللين حمى البحث عن النفط, ويرون أن الأمن القومي لكل الدول المتقدمة يعتمد على الإمداد الثابت من النفط , ولذا يشتد التنافس الدولي على القارة الأفريقية وهو ما بدا واضحاً في التوجهات الصينية والأميركية والفرنسية والهندية وغيرها إزاء القارة السمراء في ظل ظهور مؤشرات كثيرة على وجود احتياطات نفطية هائلة في دول القارة . وفق معلومات وكالة الطاقة الأميركية فقد بلغ انتاج القارة اليومي نحو 10.282 مليون برميل يومياً عام 2005 بنسبة 12.1 في المئة من اجمالي الانتاج العالمي الذي بلغ نحو48.615 مليون برميل يومياً في العام نفسه, أما احتياطات القارة فقد ارتفعت من نحو مئة مليار برميل عام 2005 الى 102 مليار برميل عام 2006 لتصل الى 114 مليار برميل بناء على تقديرات يناير العام 2007 إلى جانب ذلك تمتلك القارة مؤهلات اقتصادية كبيرة لكنها تحتاج إلى جهود كبيرة لتحقيق التنمية. وفي هذا الصدد أشار الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الى أن أنشطة التنمية تحتاج إلى جهود غير مسبوقة في ضوء ما حققته الاقتصادات الأفريقية في السنوات الماضية من معدلات عالية للنمو فقد حققت أفريقيا معدل نمو بلغ 7.5 في المئة عام 2007 وفق ما أشار تقرير الاقتصاد الأفريقي في عام 2008 الصادر عن البنك الأفريقي للتنمية وفي ظل ذلك التنافس الدولي على القارة الأفريقية, فقد وجدت طوكيو أن عليها العمل من أجل أن يكون لها موطئ قدم في القارة تعمل من خلاله على تحقيق مصالحها. ومن ثم تسعى اليابان إلى الحفاظ على نفوذها في أفريقيا, في مواجهة التزايد المستمر في المعونات والاستثمارات الموجهة لتلك القارة من دول مانحة ناشئة ولاسيما الصين والهند. ولذلك. فإن القارة الأفريقية تحتل مكانة بارزة في قائمة أولويات اليابان ويرجع ذلك إلى اسباب عدة أهمها أن طوكيو ترى أن أفريقيا ينتظرها مستقبل مشرق وأنه بمقدورها الاعتماد على نفسها لتحقيق تنميتها الاقتصادية وبالتالي ضرورة الوقوف كشركاء إلى جوار الدول الأفريقية لكي تتمكن من التمتع بالاستقرار والأمن الدائمين . ومن ناحية أخرى تعتمد اليابان بشكل كبير على أفريقيا فى الحصول على احتياجاتها من الموارد الطبيعية اذ تستورد منها 40 في المئة من الفحم, والكروم , والمنغانيز. وفي الوقت ذاته من الطبيعي أن تمد اليابان يد المساعدة إلى الدول الأفريقية بحكم الاقتصاد العالمي خصوصاً انها أكبر دولة مانحة للمساعدات في العالم إذ تقدم ما مجموعه نحو عشرة مليارات دولار سنويا للدول النامية.
كما يرى المراقبون أن هناك سببا آخر لا تفصح عنه اليابان مباشرة وهو رغبتها في الحصول على دعم الدول الأفريقية لها للفوز بمقعد دائم بمجلس الأمن والدول الأفريقية من ناحيتها لا تمانع في منح اليابان الدعم الذي تحتاجه لإدراكها أهمية الدور الحيوي الذي يمكن لليابان أن تؤديه لدعم مسيرتها التنموية . وانطلاقا من حرص اليابان أيضا على تعزيز حضورها في القارة الأفريقية فقد أصبحت القارة فى دائرة الجولات الرسمية لرؤساء الحكومات اليابانية . كما أن هناك إدراكاً يابانياً بأن أفريقيا أرض واعدة وبكر ومبشرة للاستثمارات اليابانية. فالقارة السمراء تحتوي على ثروات كامنة وإمكانات وفرص لا حد لها, فلدى الدول الأفريقية ثروات طبيعية تحتاجها وتتنافس عليها الاقتصادات الكبرى في عالم اليوم. وعلى دوائر رجال المال والأعمال اليابانية أن تتعرف بشكل أفضل وأعمق وأكثر تفصيلا على المزايا النسبية التي توفرها القارة السمراء لجذب الاستثمارات الجديدة أو التوسع في الاستثمارات القائمة بالفعل. وليس المتوقع من الاستثمارات اليابانية أن تتضاعف وتتنوع فقط بل أن تتزاوج مع أوليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية للدول الأفريقية والاحتياجات التكنولوجية والفنية لهذه الدول. والاداة الرئيسة لتحقيق تلك الاهداف هو "التيكاد" وهو منتدى سياسي انشئ بهدف دعم وتعزيز التعاون الياباني مع أفريقيا لتحقيق التنمية الشاملة فيها , ورأت طوكيو أن فلسفة "التيكاد" ترتكز إلى المشاركة ثم تطورت وانتقلت الى مرحلة جديدة لتتحول الى تضامن حقيقي بين المجتمع الدولي وأفريقيا . ويشارك في تنظيم المؤتمر, الذي يعقد مرة كل خمس سنوات , اليابان, الأمم المتحدة, برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي.
وقد أطلقت اليابان مؤتمر "التيكاد" في عام 1993 وقد أقر المؤتمر ل¯ "التيكاد" عام 1993 متابعة تنفيذ ما يعرف بأجندة الأمم المتحدة لتنمية أفريقيا في التسعينات من القرن الماضي, وقد خصصت اليابان خلال "تيكاد 1" نحو 700 مليون دولار في شكل هبات لدفع التنمية الاقتصادية في أفريقيا الى جانب 300 مليون دولار لدفع الاقتصاد في أفريقيا جنوب الصحراء . ووافق مؤتمر "التيكاد2" الذي عقد في عام 1998 على خطة عمل طوكيو التي ركزت على تحديد عدد من الأهداف التي ينبغي تنفيذها خلال فترة زمنية معينة ويتصل معظمها بالتنمية الاجتماعية فقد طالبت الخطة بخفض عدد الفقراء الى النصف بحلول عام 2015 والأمية الى نصف المعدلات المسجلة عام 1990 بحلول عام 2005 مع خفض معدلات وفيات الأطفال ما دون سن الخامسة الى ثلث معدلات عام 1990 مع توفير الماء الصالح للشرب ل¯80 في المئة من الشعوب الأفريقية فى عام 2005 .. بالإضافة الى تأكيد ضرورة اعتماد الدول الأفريقية على نفسها لتحقيق التنمية الاقتصادية وأهمية ايجاد آلية معينة لفض النزاعات والصراعات التي تجعل من الصعب جذب الاستثمارات الأجنبية . كما مكن "تيكاد 2" القارة السمراء من اعتمادات تقدر ب¯750 مليون دولار في شكل تعويضات خصصتها اليابان لتحقيق أهداف التعليم الابتدائي الشامل وخفض نسب وفيات الأمهات والولدان في أفريقيا. أما مؤتمر "التيكاد 3" الذي عقد عام 2003 فقد شهد وعدا يابانيا بتقديم مليار دولار لمساعدة أفريقيا خلال خمس سنوات بهدف تمكينها من مواجهة تحدياتها الصحية والدوائية وطرحت اليابان ثلاثة مجالات أساسية في مجال المشاركة وتقديم المساعدة الى أفريقيا وهي إعفاء الدول الفقيرة من معاناة المديونية وقد قدرت بنحو ثلاثة مليارات دولار , ثم مواجهة حاسمة لقضايا الإنتاج الزراعي الأفريقي لتقليل حجم الواردات والتركيز بصفة أساسية على تطوير الزراعة, الى جانب رصد 6.1 مليار دولار لتطوير البنية الأساسية في أفريقيا وتشجيع الشركات اليابانية على الاستثمار وتوفير ثلاثمئة مليون دولار اميركي قروضا ميسرة لتشجيع هذه الشركات . فضلا عن 300 مليون دولار كقرض للاستثمارات الاجنبية والنهوض بالاستثمار في أفريقيا. اما "تيكاد 4" الذي عقد عام 2008 فقد اعاد التركيز على ان عملية "التيكاد" عملية قائمة على أساس الشراكة. وأن هذه الشراكة لا تقتصر بدورها على اليابان من جهة والدول الأفريقية من جهة أخرى بل يتم النظر إليها باعتبارها عملية متعددة الأطراف حيث أن هناك شركاء آخرين مثل مصارف التنمية الدولية والإقليمية متعددة الأطراف وغيرها. وفي هذا المؤتمر حصلت الدول الافريقية على عدد من المكاسب حيث رصدت اليابان عشرة مليارات دولار لمكافحة ظاهرة التغير المناخي والعمل على إيجاد وسائل تكنولوجية حديثة صديقة للبيئة في افريقيا والحصول على التزامات محددة وكمية من الطرف الياباني وغيره من الأطراف المانحة المشاركة في عملية "التيكاد" تكون متصلة بدورها ببرامج ومشروعات يتم التوصل إليها بشكل مشترك بين الجانبين الأفريقي والياباني بما يحقق مصالح ومنافع مشتركة لمختلف أطراف هذا التعاون.
يضاف الى ذلك انشأ المؤتمر آلية للمتابعة طالما تطلع إليها المشاركون وتشمل نوعاً من التشاور بشكل منتظم بما يمكن من مراجعة تنفيذ البرامج والمشروعات المشتركة وسيتعين على هذه الآلية تقييم مدى تنفيذ الالتزامات التي أعلنت في القمة وإلى أي مدى تم تنفيذ الأهداف وتحقيق النتائج التي أسفرت عنها القمة.
ويمكن ان تساعد "التيكاد" اليابان من أجل تحقيق مصالحها خصوصاً في ظل هذا القدر الكبير من التوافق الذي حدث بين الطرفين غير أن هناك حاجة إلى حسن استغلال الآفاق المتوافرة للصعود بالتعاون العلمي والتكنولوجي بين الدول الأفريقية واليابان إلى مرحلة نوعية أعلي أي إلى مرحلة الشراكة الكاملة. في النهاية يطرح البعض اسئلة عن مستقبل "تيكاد" خصوصاً في ضوء النقاش والجدل بشأن التعريف المعرفي والمفاهيمي لطبيعة عملية "التيكاد" ككل: أي هل سيتم استمرار اعتبار هذه العملية متعددة الأطراف كما هي الحال حاليا أم ستتحول إلى عملية ثنائية مقصورة على الدول الأفريقية واليابان فقط, وهل ستستمر قمم "التيكاد" في الانعقاد كل خمس سنوات كما هي حتى الآن, أم سيتم تغيير ذلك, هذا ما ستجيب عنه الفترة المقبلة.
خبير في الشؤون الستراتيجية
hasana961@yahoo.com

جزاك الله خيرا
وبارك الله فيك